Saturday, November 13, 2010

المقعد الخشبي بالشرفة



حين رأيت والدي يجلس على المقعد الخشبي الخاص بجدي في الزاوية الغربية للشرفة، ظننته فقط يفتقد والده الراحل لكني لم أحتج إلى كثير من التدقيق لأدرك أنه يرتدي ذات النظارة السميكة والروب الأخضر الثقيل اللذين كان  يرتديهما جدي من قبل.

لطالما تعجبت من جلسة جدي تلك -ومن بعده والدي- كان يستيقظ من نومه لا يفعل شيئا غير الجلوس في الشرفة شارداً، صامتاً، يتأمل انعكاسات الضوء وتشكيلاته على صفحة ماء النهر في صمت.

أخبرتني والدتي أن جدي لم يكن هكذا دوماً، كان فيما مضى أشد حيوية وانفعالاً من طفل في السابعة من عمره، لكن حاله انقلب فجأة بعد وفاة والده. أصبح وحيداً، صامتاً، لا تظهر عليه آثار الحياة، أشد جموداً من مقعده الخشبي

بعد وفاة جدي، لا أذكر أن والدي بكى أو انتحب أو بدا عليه الانفعال أو التأثر، كل ما فعله أنه أتم عملية الدفن ثم أخذ دوره في الشرود وحل محل والده على المقعد الخشبي في الشرفة مرتديا ذات الملابس راسما نفس النظرة المبهمة .

أخبرتنا عمة والدي أن جلسة والدي -وجدي من قبله- هي ذات الجلسة التي كان يجلسها والدها قبلهم. أقسمت خالتي أن هذا المقعد ملعون، يختطف رجال العائلة واحداً تلو الآخر ولابد أن نتخلص منه قبل أن يقتل والدي كما فعل من قبل مع أبويه. لكن والدتي رفضت أن تسلب والدي الشيء الوحيد الذي يحبه في هذه الحياة.

لكني أنا من كرهت المقعد وصممت على كسره أو بيعه أو إحراقه، لا أدري إن كنت أخشى على والدي من أن يقتله المقعد أم لأني أعلم جيدا أني سينتهي بي الحال كما أسلافي مرتدياً ذات النظارة السميكة والروب الأخضر الثقيل، محملقاً في اللاشيء

Monday, November 8, 2010

صمت

 
لا ندري حقاً من منا دخل الحالة أولا، من منّا اختار الصمت . لكنّا وافقنا عليه معاً و رضينا به سيداً للوضع بيننا . 

في فترة خطبتنا كانت لقاءاتنا و زياراتنا و أحاديثنا الهاتفية لا تنقطع، حتى في أشهر زفافنا الأولى كنا لا نكاد نصمت. بمرور الوقت أصبحنا نكتفي بمحادثات أوقات الشاي و الطعام و تحيات الاستيقاظ الخاطفة. بعدها أصبحنا نكتفي بالأحاديث الروتينية الباردة، ثم أخيرا اختفتى الابتسام بيننا وبدأ الصمت . 

أصحو من نومي، أتأملها، أتحسس وجهها بأصابعي، مازالت كما هي منذ تقابلنا أول مرة -ملاك بكل معاني الكلمة- وجهها الرقيق، بشرتها، ملمسها الناعم، رائحتها الخلابة، كل شيء كما هو لم يتغير، إلا ابتسامتها و لمعة عينها قتلهما الصمت أو قتلتهما أنا . 

تستيقظ هي الأخرى، تتأملني، ننهض سوياٍ، نفطر سوياً، نرتدي ثيابنا سوياً و نخرج سوياً، لكن يفصلنا الصمت . 

لا أدري حقاً سبباً للصمت، مازلت أحبها كما كنت بل ربما أكثر من قبل، مازالت تملأ كل كياني. مازلت أقضي يومي في تحضير كلامي، مازال في داخلي ما أريد أن أبوح به، لكن كلامي يأبى أن يخرج فأكتفي بالنظر إليها . 

هي أيضا تفعل مثلي، تتأملني، تفكر، تنازعها الكلمات، لكن فمها يأبى النطق. عينها تشي بها، تقول أنها تحبني كما أحبها. أنها مثلي تريد البوح، لكن يمنعها الصمت . 

لابد و أن ننهي تلك الحالة، أن نخرج من ذاك القفص اللعين، أن نهزم هذا الصمت. أُوقِف السيارة، ألتفتُ إليها، أجدها تتأملني في شغف، أمد يدي نحوها، أتحسس كف يدها. تحتضن أصابعي في حنان، أبتسم لها، أهم بالبوح لكن لا أقدر، لا أجد ما أُعبر به عمّا بداخلي، فأكتفي بالصمت، تدمع عيناها، أحتضنها، تختلط دموعنا، نتشابك طويلا، نكاد نلتحم، ولكن يفصلنا الصمت .