Friday, December 31, 2010

المختار


كل شيء كان يقول أنه هو، كل الدلائل كانت تدل على ذلك، كل العلامات التي لا تخطؤها القلوب ولا الأبصار، كل ما فيه كان يقولها صريحة؛ أن النبوءة تنطبق عليه بحذافيرها، أنه هو المختار ولا أحد سواه .
 "سيأتيكم من ليس له اسم، نبت في أرض لم يحرثها بنو الإنسان، مخلوقٌ من طينة الجبابرة القدماء، معلَّمٌ بعلامة ثورٍ بريّ، مختومٌ بخاتم الآلهة المقدس، فأطيعوه، واتبعوا الطريق الذي يسلكه، فإن خلاصكم يكون على يديه"
لا يعلم أحد متى كانت النبوءة ولا من أطلقها، لكن كل أبناء عشيرة الإيتانيين يحفظونها عن ظهر قلب وكلهم يؤمنون بها بل إنهم يعدون من يشكك فيها من المهرطقين . وحده هو لم يؤمن بها مطلقاً، ربما لأنه يدرك أنه أقل من أن يكون قائداً أو مختاراً، هو فقط يريد أن يصبح عادياً .
لكن معالم النبوءة تتضح شيئاً فشيئاً، وانطباقها عليه أصبح من المسلّمات التي لا تقبل الجدل. فهو يتيم غير معلوم الأب ولا الأم، وجده أحد الصيادين ملفوفاً في عباءة وملقىً على شاطيء البحيرة الكبرى. هو لا يشبه حقاً الجبال، لكنه أضخم أهل إيتانيا وأقواهم بنياناً. في صغره هاجمه ثورٌ هائجٌ مما ترك في جبينه علامة لم يستطع الزمن أن يمحُها. أما خاتم الآلهة المقدس فلا أحد يعرف ما ذلك الشيء .
منذ صغره –وبعدما ظهرت عليه علامات النبوءة- ضمه كهنة المعبد إليهم ونقلوا إليه كل أسرارهم وفنونهم المقدسة. أتقن منذ صغره القتال والمنازلة وعلوم الطب والكيمياء والسحر، حتى الأسرار الكهنوتية المحرمة التي لا يعلمها إلا الكاهن الأكبر علّموه إياها .
حين بلغ الحادية والعشرين من عمره، رأى كاهن المعبد الأكبر أنه صار مستعداً لتحمل أمر النبوءة، وأن الوقت قد حان ليشن الإيتانيين حربهم المقدسة. استدعاه الكاهن إلى المعبد ليعقد مجلس الحرب ويضيء لهم الطريق المقدسة للنصر. حاول إقناع مجلس الكهنة أنه ليس من تنطبق عليه النبوءة وأنه ليس مختارهم المزعوم، حاول إخبارهم أنه ليس مستعداً بعد وأنه ليس في إمكانه قيادتهم، لكن صوت الكهنة كان أقوى من صوته، ورأيهم كان أقرب لقلوب الإيتانيين من رأيه، فلم يستطع الاعتراض .
هو لا يؤمن حقاً أن باستطاعته قيادة الجيش أو حتى القتال. هو حتى لا يؤمن بالنبوءة، ولا يصدق أنها حقاً وحيٌ نقلته الآلهة إلى الأب الأكبر لإيتانيا حين أمر بإنشاء المعبد كما يقولون، هو يرجح أنها مزحة من أحد المهرجين أو قصيدة لأحد الشعراء أو حتى إرهاصة لأحد السكارى –وما أكثرهم في إيتانيا-
ولكن حتى وإن كان لا يؤمن بالنبوءة ولا بقدرته على تحقيقها، فهو لا يمكن أن يتراجع عنها، لقد خرج الأمر من حيز المشيئة بالنسبة له. كما أنه ليس لديه حقاً ما يخسره، لا عائلة ولا أصدقاء ولا رفيقة ولا شيء، إذن فلا مانع من أن يجرب قيادة جيشهم المزعوم، لعل الآلهة ترؤف بحاله وتكتب له النصر .
ولكن كيف لآلهة إيتانيا بما لها من جبروت وجموح وغطرسة –كما رُوِيَ له- أن تنصر من شكك دائماً في وجودها وقدراتها ومن لم يؤمن يوماً بوحيهم ونبوءتهم المزعومة وعلاماتهم المقدسة، في حين أنها لا تنصر الخاضعين النُّسَّك المساكين الذين ينفقون قوتهم وقوت عيالهم من أجل استرضائها  . إن ذاته هي الشيء الوحيد الذي عليه أن يؤمن به، هي الشيء الوحيد الذي سيساعده في حربه وحرب الإيتانيين، إذن فليؤمن بذاته وقدرته، وليذهب الآلهة إلى الجحيم .
انطلق جيش الإيتانيين الجرار مكتسحاً أمامه المدن والممالك الصغير المجاورة، جار على الممالك الضعيفة أولاً، أتى على الأخضر واليابس، ولم يخلّف وراءه أي رأسٍ كما أمره كبير الكهنة. نجح الإيتانيون وجيشهم الضخم في تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الحرب المقدسة، انتشرت الأقاويل عن الإيتانيين وجيشهم الحاشد، عن وحشيتهم وتعطشهم الوحشي للدماء، نجحوا في بث الرخوف والهلع في نفوس الآخرين، فكانت الممالك تسقط أمامهم دونما أدنى مقاومة، ودون رفع للسلاح .
كانت الأخبار ترد إلى إيتانيا عن انتصارات جيشهم الساحقة فتزيدهم إيماناً بالنبوءة وصدقها، وتزيدهم تحرقاً لانتظار بشارة سيادتهم المزعومة. كان كل شيء يسير كما أرادوا حتى ذاق الجيش كأس الهزيمة في نوراسيا، تبعها انكسار ساحق في كاروزيا فقتل كل أحلامهم في النصر الإلهي المقدّس .
عادت بقايا الجيش المحطمة إلى إيتانيا مكللة بهالات الموت وصيحات القتلى الفزعين، تحلق فوق رؤوسهم الجوارح من الطير وتحوطهم الهزيمة من كل ناحية، ليجدوا محكمة الآلهة المقدسة منعقدة في انتظارهم أمام المعبد يترأسها الكاهن الأكبر ويحضرها كل من خلفوه ورائهم وجازفوا بحياتهم من أجل تحقيق نبوءتهم الكاذبة وحلمهم المزعوم . أصدرت محكمة الآلهة المقدسة حكمها دونما مرافعة ولا مداولة ولا تحقيق؛ فقط تلى الكاهن الأكبر الاتهامات وصدر الحكم على الفور .
 لم يشك أحدهم في النبوءة، ولم يفكر أحد في التحقق من صدقها وثبوتيتها، لم يظن أحدهم ولو للحظة أن النبوءة ربما لا تتحدث عن جيش ولا عن حربٍ مقدّسة، كلهم تجاهلوا التحقق من النبوءة ومن نصها، ولكن اتفقوا على أن مختارهم المزعوم ليس من تتحدث عنه النبوءة، بل هو ابن سفاح أرسلته لهم الشياطين كي تضللهم وتصرف همهم عن البحث عن المختار الموعود –بدليل أنه لم يولد بعلامة الثور بل اكتسبها، كما أنه لا يملك خاتم الآلهة المقدس-. حكم عليه بأن يُصلب في ساحة المعبد وأن يُعزل من عاد من جنوده ويُحرموا من دخول المعبد والصلاة على أبوابه ويُجرّدوا من كل حقوقهم ليظلوا موصومين بالعار طول حياتهم .
انفضّت المحكمة ونُفذت الأحكام ومازال الإيتانيون في انتظار مختارهم الموعود ليحقق نبوءتهم المقدسة .

Wednesday, December 29, 2010

برد

أعشق الصباحات الشتوية الممطرة، أشعة الشمس التي تجاهد كي تخترق الغيوم الرمادية راسمة أبدع لوحات الطبيعة .
نسيم الصباح المشتد المتحوّل إلى تيار هوائي جارف يؤرجح كل شيء، يتلاعب بكل شيء، يتحكم في كل شيء، بدءاً من الأوراق المتناثرة في الشارع إلى الأشجار الثابتة على جانبيّ الطريق. أعشق مشهد الأشجار المتراقصة، وإن كنت أشفق عليها من شدة الميل؛ فلا هي تصل إلى الطريق فتتوه في زحام التائهين، ولا هي تصل إلى صفحة الماء فتمتزج مع التيار.
الطرقات الآن شبه فارغة، أفتح ذراعي على أشدهما سامحاً للهواء بمداعبة كل خلايا جسدي المنهكة، الرذاذ الخفيف المتساقط يلامس روحي فيطهرها من كل خطيئة، أنا الآن أمتلك العالم. يشتد تساقط الرذاذ فيتحول إلى مطر، الآن الشارع خالٍ من كل حياة إلا بعض الحيوانات الضعيفة الباحثة عن الدفء، أحكم إغلاق معطفي وأسرع الخطو إلى المنزل، أنا أيضا أبحث عن الدفء.
أصل إلى المنزل بعد انتهاء نوبة الفرحة السماوية، أغير ملابسي المبتلة، أعد كوباً من القهوة، أفتح المذياع ينطلق صوت الملك منير "دحرج حلمه وألمه واسمه، دارى عيون عايزين يبتسموا". ربما منذ قليل كانت تلك حالتي بالظبط، لكنّي الآن لا أريد مواراة الفرحة داخلي، ليس بعد الآن.
ألقي بنفسي تحت الأغطية الثقيلة، أحاول البحث عن قليلٍ من الدفء بشتى الطرق، لكم أحب الصباحات الشتوية، لكن أكره شعوري الدائم بالبرد

Tuesday, December 14, 2010

وحيداً على مقعد باتجاه الطريق


أجلس وحيدا

على مقعد باتجاه الطريق

أحكم إغلاق معطفي حول جسدي

وأبقى منتظرا للذي لن يجيء

كل الشوارع الممتدة في الأفق لي

أعبرها إن أشاء

أسير على أرصفتها إن أشاء

وأبقى على المقعد إن أشاء

كل الصبايا اللائي يجبن الطريق يبسمن لي

كل الرذاذ المتساقط من قلب سحب السماء

نزل لكي يغسلني

كل الطيور التي حول رأسي تغرد

كل البلابل

كل الزنابق

كل الورود

كل الزهور التي بالعبير تفوح

كلها ملك لي

فلماذا أجالس ذاتي منتظرا للذي لن يجيء