Wednesday, May 19, 2010

الرحيل



لا العصافير ولا الزنابق ولا نسائم الربيع تسكن أرضنا، فقط الشوك و الخبث و الحشرات، حتى نحلات العسل الخاصة بجدتي تركت أعشاشها و بيوتها اللي بنيناها مع جدي، كل شيء ذهب و كل شيء مضى، أصبحت أرضنا كالخرائب .


لم يكن الحال كذلك قط، كانت أرضنا أفضل أرضٍ في القرية، ومنزلنا هو أغناها و أعلاها حسباً ومنزلةً، كنا مقصد الجالسين و جنة القاعدين، كان بيت جدي مفتوحٌ دوماً على مصراعيه أما الغريب قبل القريب، و أمام الراحل قبل القادم، لم ينقطع من بيتنا الزاد ولا المتزوّدين، حتى في أوقات الشدة و العسرة، كان الخير يفيض علينا و كأن البركة تأبى أن ترحل عن منزلنا .


مازلت أذكر كل شيء في منزلنا و كأنني كنت فيه البارحة . أذكر أحواض زهور الزنبق –المفضلة لدى جدتي- تتوسط أحواض البنفسج و الليلك و الياسمين و الورود الحمراء البراقة، التي يفوح عبيرها في الربيع فيضفي جواً من البهجة لا تخلو منه حديقتنا. كنا نخرج كل صباح بعد شروق الشمس، لنرى انعكاسات الضوء على قطرات الندى التي تداعب ورق الزهر كما حبات اللؤلؤ، فنقطف باقات الورد و نناولها لابنة عمي الكبرى فتنسقها في باقاتٍ زاهية الألوان لنقدمها لجدي بعد رجوعه من مجلسه المعتاد .


كنا نصحو كل صباحٍ على تناغم أصوات عصفورات الكنارِ مع  زقزقة الزرزور والعنادل في الحديقة، فنخرج لنطاردها مع كلب جدنا العجوز حتى يأخذنا التعب فنسقط أرضاً ضاحكين و العصافير ما تنفك تغرد في نفس سعادتها المعتادة


أذكر سهراتنا الصيفية حول نافورة الماء الرخامية الزرقاء في وسط الباحة، أذكر أحاديثنا و ضحكاتنا و لهونا بالماء حتى تبتل ملابسنا، و صياح أمي علينا كي نكف عن اللعب و نخلد للنوم، ولكن هيهات فالصيف هو فصل اللهو و سهرات العائلة الصيفية لا تقدر بثمن . أذكر ليالي الشتاء الباردة و اجتماعنا في حجرة جدي - أمام المدفأة الحجرية القديمة – ليقص علينا واحدة من حكاياته الرائعة التي لم يمكننا النوم دون إكمالها .


أذكر أيضاً حين مات جدي و مات معه كل طعمٍ للبهجة في منزلنا، اكتسى كل شيء باللون الأسود و الرماديّ الكئيب، العصافير رحلت والوردات ماتت و نار المدفأة انطفأت، حتى ماء النافورة المحلى بماء الورد، استولت عليه الطحالب الخضراء


أذكر اختلاف أبي مع إخوته على تقسيم المنزل والضيعة و الأملاك ، أذكر أنهم باعوا كل شيء في حوزتهم رغم بكاء جدتي و إلحاح الذكريات عليهم، إلا أنهم باعوا كل شيء و اقتسموا الريع بينهم . أذكر دموع جدتي ، أذكر آخر كلماتها و نظراتها و حديثها مع كل حجرٍ و كل قطعة قرميدٍ في المنزل، أذكر رحيلها و رحيل أبي و رحيل أعمامي و أبناءهم، و أذكر رحيل كل شيء ... كل شيء

2 comments:

  1. يا نهار أبيض
    دى تحفة
    ما شاء الله عليك جميلة بجد
    وعلى فكرة العنوان حلو
    استمر يا أحمد
    Old Tree

    ReplyDelete
  2. ربنا يخليكي يا صديقتي العزيزة
    سعيد بجدإنها عجبتك يافندم
    شكراً بجد على اهتمامك و مرورك و معلش تاعبك معايا كده دايماً :-)

    ReplyDelete