Sunday, January 6, 2013

وجبة من اللحم

الأربعاء - الحادي عشر يونيو
"اليوم هو الأول بعد الأربعمائة ونحن بلا قطرة مطرٍ واحدة". هكذا أخبرتنا أمي، أنا لا أذكر التواريخ بالدقة التي تذكرها بها أمي، أمي هي التي تحفظ كل التواريخ وكل الأحداث وكل الأسماء عن ظهر قلب، إن في مقدورها أن تخبرك عن تاريخ عائلتك كله بمجرد أن تذكر لها اسم والديك!
تحدّثنا أمي –في استمتاعٍ غريب- عن زمنٍ كانت تنهمر فيه الأمطار دون توقف، فتتدثّر الأرض بالخضرة وتدُبُّ الحياة في أرجاء الوادي، تُحدّثنا عن زمن الأزهار والأشجار وحيوانات الحديقة. تنظر لها تريزا الصغيرة في بلاهة، مسكينة تريزا فهي لا تذكر أياً من هذا، كان عمرها بضعة أسابيع حين هطل المطر لآخر مرة، كل ما تعرفه تريزا هو الجفاف، كل ذكرياتها لا تحوي سوى الصحراء والموت واللون الأصفر!
تقول جدّتي أن الجفاف الذي حلّ بنا إنما هو غضبٌ من السماء لن يمحوه سوى الصلاة والدعاء، صلّينا للرب وللملائكة وحتى للشيطان لعلّ أحدهم ينجينا من الموت المحدق بنا من كل ناحية، ولكنّ لم يحفل بنا أي من ساكني السماء!

الاثنين - السادس من يوليو
اليوم عادت إلينا ساتا –كلبة والدتي العجوز- حاملةً معها أربعُ جِراءٍ صغيرة بيضاء اللون. استقبلتها والدتي بفرحٍ جنونيّ، اشترت أمي ساتا منذ بضعة أعوام كي تحرس طيورها، ولكن والدي طردها حين حل الجفاف ونفقت الدجاجات، قال أنها صارت عبئاً الآن وأننا لن نستطيع تحمل إطعام كائنٍ آخر، يكفينا ما لدينا من أفواهٍ مفتوحة.
توقعت أن يطرد أبي ساتا من جديد أو على الأقل أن يضجر من وجودها، لكنّه على العكس تماماً صار أكثر سعادةً منذ أن عادت ساتا، حتى إنه خصص لها ولأطفالها حصة من ماء البئر!
منذ عودتها، صارت ساتا مركزاً للكون، كل شيء يدور الآن حول ساتا وجرائها الصغيرة، تريزا الصغيرة تقضي نهارها كله في اللعب مع الجراء، أخي جوناثان –الذي تعلم الرسم حديثاً- رسم لها أكثر من عشرين لوحة، تارةً يصورها ترتدي فستاناً وتارةً يصورها ترتدي معطفاً شتوياً ثقيلاً وتارةً أخرى يصورها مرتديةً درعاً معدنية كأبطال الحرب الرومانيين.
حتى والدي ووالدتي حين استمعت خلسةً إلى شجارهما الأخير كانا يتجادلان عن ساتا هل هي مجرد حيوان أم فرداً من العائلة

الخميس – الثالث والعشرين من يوليو
اليوم زارنا الطبيب، أحضره والدي للاطمئنان على صحة جوناثان. لقد سقط جوني من أعلى سطح المنزل البارحة حين كان يرسم لوحة للسماء، لماذا ترسم السماء يا جوني؟! لماذا تحب السماء يا عزيزي رغم أنها لا تحبك!
أخبرنا الطبيب أن جوناثان قد كُسرت ساقه وأنّه يحتاج للراحة، ولكن الكسر سيأخذ وقتاً كي يلتئم، لأن جوني مصاب بفقرٍ في الدم. -هل الدم أيضاً يصيبه الفقر! وكيف سنعالجه إذاً ونحن لا نكاد نملك شيئاً!
حين رحل الطبيب تشاجرت أمي مع أبي مرةً أخرى، سمعته يصرخ أن الأطفال بحاجةٍ للحم، جوناثان لن تُشفَ ساقه مجدداً إن لم يتناول الطعام. أطرقت والدتي دون أن تُجِب، هذه هي عادتها دوماً، حين يغالبها أبي بصراخه، إن أبي طيب القلب لكنّه سريع الغضب.
في المساء أعدّت والدتي طعاماً لم نذُق مثله منذ وقتٍ طويل، سألتها تريزا ما هذا الطعام، فتخبرها والدتي أنّه اللحم، مسكينة تريزا الصغيرة لم تذُق اللحم من قبل –آخر دجاجات والدتي نفقت قبل أن تتعلم تريزا الأكل- لا تعرف سوى طعم الفاكهة الجافة وخبز الشعير.
استيقظت في الليل على صوت عواءٍ مختلطٍ بنحيبٍ مكتوم، أسرعت خارجاً لأطمئن على ساتا، فوجدتها تقف في منتصف الباحة تنبش الأرضية وأمامها والدتي تجلس القرفصاء، لم أدر من منهما تعوي ومن منهما تنتحب.
في الصباح سألت والدتي عمّا حدث، بكت أمي مرة أخرى وأخبرتني أن ساتا كانت تبحث عن جِرائها، في البداية لم أفهم ما قالته فأعدت سؤالها، فأشاحت بوجهها بعيداً وقالت إن ساتا لا تستطيع أن تجد جرائها!
تغيّرت ساتا كثيراً،صارت تقضي نهارها في نبش الباحة وتقضي ليلها في العواء، تعلو وجهها نظرة حزينة وفي عينيها لمعة اتّهام. صارت لا تقرب الماء ولا الخبز الذي تقدمه لها أمي، تكتفي فقط في بالعواء الحزين. استمرت ساتا على هذه الحالة بضعة أيامٍ حتى اختفت أخيراً

الجمعة – الحادي عشر من سبتمبر
استيقظنا على صراخ أمّي، هرعنا نحوها فوجدناها تحمل غطاء تريزا الصغيرة وتصرخ كالمجانين. أخبرنا والدي أنها حين قامت للاطمئنان على تريزا الصغيرة لم تجدها في سريرها وأنّهما بحثا عنها في أرجاء المنزل ولم يجداها. طمأنتهما جدّتي وقالت إنها بالتأكيد خرجت للّعب، فالأطفال في هذه السن كالوحوش الغير مروّضة.
انطلقنا للبحث عن تريزا الصغيرة في الخارج، بحثنا عنها في كل بيوت القرية وفي الكنيسة وفي السوق، جُبنا كل الطرقات وكل الساحات وكل المزارع، أخي جوناثان ورفاقه نزلوا قاع النّهر للبحث عنها، لكن دونما جدوى، لم يرها أحدهم
انضم إلينا كل رجال القرية، وضعوا خطة للبحث في الصحراء وفي القرى المجاورة، سينطلقون في دائرة قطرها بضعة كيلومترات، ربما وجدها أحد الرحالة أو أحد الباعة الجائلين. يومان ونحن نبحث عن تريزا العزيزة ولكن لم نجد لها أي أثر. قرر الرجال إنهاء البحث والعودة إلى القرية بعد أن فقدوا كل أملٍ في العثور عليها
حين عدنا للمنزل، وجدنا أمي فاقدةً للنطق، تنبش الأرض كالممسوسة وأمامها تقف ساتا في صمت، تعلوها ذات النظرة الحزينة، ولكن اختفت لمعة الاتهام الراقدة بين عينيها لتسكن بدلاً منها لمعة انتصار!!!

4 comments:

  1. قصة جيدة وقاص متمكن ومشروع روائي

    ReplyDelete
  2. لا أحتاج للدخول في تفاصيل القصة لأنها بالفعل تشرح نفسه وليست ملغزة ولكن لي أربع ملاحظات
    1- واضح تأثرك بالأدب المترجم حيث أن القصة تدور في عالم غربي أو لاتيني بكل مفرداته وقد ّكرتني برائعة ماركيز " مائة عام من العزلة "
    2- ملحوظتان لغويتان الصواب " أربعة جراء " و " غير المروضة "
    3- آن الأوان لتبحث عن منابر للنشر عبر الصحف والمجلات ولا تكتفي بالمدونة
    4- أرى أن اتجاهك للرواية قد يكون صائبا لقدرتك الرائعة على الحكي

    ReplyDelete
  3. أيوة.. دي بقى قصة قصيرة..
    برافو يا أحمد..
    :)

    ReplyDelete