Wednesday, March 24, 2010

أم

أُم ....!!
كـم مـرةٍ جلسـت ترقـب ذات المشـهد من الشـرفة الخارجـية؟ هي لا تذكـر بالضـبط رقـماً مـحدداً. الأمـر أشبـه بحـقن الأنسولـين, التـي يتعاطها مرضـي السـكر يومياً. بعـدد الأيـام, والشـهور, والسـنين جلـست. لـكن الـيوم يختلـف عـن سـابقيه, أحست هي بذلك.

يا الله! أحـقاً مضـي علـيها ثـلاثة أعـوام في ذلك المـكان؟ فكـرت, وهـي ترمـق الشـوارع شـبه الخـالية, ثم أطـرقت في شـجن. صحيح أنها وجدت في ذاك المكان ملاذاً بديلاً, صحيح أن نفقاتها تأتي إليها في الميعاد المحدد، وكل رغباتها تجاب بمجرد أن تطلبها, لكن طوال تلك الفترة لم يزرها أحد، ولم يطمئن عليها أحد، بل إنها حتى لا تراهم وهم يدفعون تكاليف إقامتها في الدار .
                
في الماضي كانت تجهد نفسها في إيجاد الحجج و خلق الأسباب التي تبرر إهمال أبنائها لها و انقطاعهم عن التواصل معها . فتارة توهم نفسها بكثرة مشاغلهم و تعدد ارتباطاتهم و انغماسهم في خضم الحياة اليومية ، و تارة أخرى تخبر نفسها أنهم لابد و سافروا لقضاء الإجازة في الخارج أو ما شابه. لكن توالي الأيام و تعدد الفرص و الأعياد و الإجازات بدون أي محاولة تواصل ولو حتى عبر الهاتف، جعلها تفقد اقتناعها بأي من تلك الأسباب .

برغم من إحساسها بالخيبة و بألم الوحدة، فإنها راحت تتهم نفسها بأنها ربما كانت قاسية بعض الشيء في معاملتهم و تربيتهم، ولكن ذلك كان بدافع حرصها عليهم و رغبتها في توفير الأفضل لهم و لابد أنهم يدركون هذا الآن .

ثم إنها كانت كثيرة التذمر و كثيرة الشكوى في الفترة الأخيرة، ربما ضاق بها الأبناء و بمحاولاتها المستمرة للتدخل في حيواتهم الخاصة و رغبتها في تنشئة الأحفاد على الطريقة التي تراها مناسبة . ربما ملّ الأبناء من كآبتها الدائمة و حزنها المستمر، فقرروا أن ينقلوها إلى مكان أهدأ، علّها تجد فيه بعض السكينة التي افتقدتها في منزل الأسرة .

ربما .. وربما .. وربما .. احتمالات كثيرة و أفكار لا حصر لها أخذت في التهام عقلها و روحها في قسوة، مما دفعها إلى الانغلاق على نفسها و الانعزال عن باقي نزلاء الدار و عن كل ما حولها، بل إنها أصبحت أكثر صلفاً من ذي قبل و أصبحت عدوانيتها تطول كل من حاول التقرب منها و التلطف معها .

والآن و بعد مرور ثلاث سنوات من انتقالها للإقامة في الدار، أرهقتها الظنون و آلمها سياج العزلة و الحدة الذي فرضته على نفسها، قررت استجماع ذلك القدر المتبقي من الشجاعة لتتغلب على ما تبقى لديها من عرقها التركيّ المغرور. قررت أن تستجمع قواها و تذهب للسؤال عن أولادها، فهم رغم كل ما فعلوه و رغم كل ما قاسته من هجرهم وكل ما لاقته من جحودهم يظلوا أبناءها و فلذات كبدها و من حقها عليهم أن يراعوها و أن ترى أحفادها ولو لمرة واحدة .

ذهبت إلى حيث تجلس السيدة "سعاد" مديرة الدار، وجلست تتطلع نحوها في صمت، حتى بادرتها السيدة سعاد :" ماذا هناك يا مدام صفيّه؟ لعله خيراً ."
تطلعت نحوها صفيّه في حرقة ثم أجابت في تردد : " أُ .. أُريد أن أسأل ..... عن أولادي، لماذا لا يأتون لزيارتي؟ " . "أريد ..  أريد عن أتصل بأحدهم، إذا سمحتي" .

نظرت نحوها "سعاد" في أسى، ثم أجابت : " لقد تأخر هذا السؤال طويلاً، ولكنني كنت أنتظره على أية حال" .
لم تفهم "صفيّه" ما قالته، فنظرت نحوها في ارتياب و غمغمت : " ماذا تقصدين؟ أنا لا أفهم شيئاً ."
تطلعت نحوها سعاد في شفقة، و أكملت : " في الأول من كل شهر، يأتينا مبلغ من المال مع تلك السيدة الأنيقة الغامضة و تقول أنها فاعلة خير. أما أولادك فللأسف لا يمكنهم زيارتك أو التواصل معك . "

تلّقت "صفية" الخبر كالصاعقة، ألهذه الدرجة تركها أبناؤها، ألهذه الدرجة تنكرت لها عائلتها، أوصل بها الحال إلى العيش من مال الصدقات ومما ترسله فاعلة الخير الغامضة تلك، ألهذه الدرجة .. !!

همّت "صفية" بالنهوض و العودة إلى غرفتها، و لكن السيدة "سعاد" استوقفتها قائلة: "بعد أن أحضروك إلى هنا بأسبوع واحد، و أثناء قدومهم لزيارتك، تصادمت سيارة أبنائك مع حافلة ضخمة، فانقلبت بهم السيارة و لقي الثلاثة مصرعهم" .

تلقت "صفية" الخبر في صمت، لم يبدُ عليها أنها تأثرت بما سمعته، بل لقد بدا و كأنها لم تسمع حرفاً واحداً  مما قالته السيدة "سعاد" .
نهضت في ذهول، و صعدت إلى غرفتها في ديناميكية عجيبة كالإنسان الآليّ أو كالمسلوبة إرادته .

عندما دخلت إلى غرفتها، بدا و كأنها قد استوعبت أخيراً ما سمعته، حاولت الصراخ و البكاء والنحيب، حاولت أن تبدي أي من علامات الحزن المعتادة لدى النساء، ولكنها لم تستطع، و كأنما كل حواسها قد أصابها الشلل أو التبلد .

" مات أولادك الثلاثة يا صفية، ماتت فلذات كبدك أيتها المرأة الشقية، ذهب كل ما بقي لك في الحياة أيتها التعِسة . و أنت أيتها العجوز الحقيرة ظننتِ أنهم أهملوكِ و اتهمتهم بالجحود، أيتها الخرفة . ما أتعسَكِ و ما أقسى قلبك يا صفيّه،  ما أشقاكِ من أم !!! . إنك حتى لا تستحقين هذا اللقب أيتها الشمطاء، إنك حتى لا تستحقين الحياة. و هل يكون للحياة قيمة بعد رحيل الأحبة؟! "

راحت تردد تلك الجملة الأخيرة في ذهول حتى تردد صداها داخل كل خليةٍ من خلايا جسدها الضعيف، راحت ترددها حتى تشربها ذهنها و تشبع بها جسدها كله فصارت لا ترى أمامها إلا وجوه من رحلوا. وجدت نفسها تتجه إلى الشرفة في صمت، و تقفز بكل ما أوتيت من وَهَنْ .....

No comments:

Post a Comment